كتب / أحمد القاضي
【 الأسرة العلوية .. فكر ومشروع 】
الفكر .. هو المادة الخام التى تتطوعها السياسات وتصنعها , وربما تكون الفكرة هى الأساس لأى مشروع سياسى أو أى نظام حكم أو حتى طموح شخصى نحو المبادرة الفردية . . أيها السادة , ان التصور بأن ملوك الأسرة العلوية كانوا يرفلون فى قصورهم وبدانتهم , ولا هدف لهم سوى النهم للمال أو الجشع الاستعمارى , لهو قول يحتاج إلى كثير من المراجعة والتقييم .
** محمد على : كانت لديه فكرة مشروع إمبراطورى بالشرق , وهذا المشروع قد يتحول إما لهزيمة تركيا وجعلها تابعة لمصر , أو الحفاظ على رمزية السلطنة العثمانية شريطة أن يكون هو – وليس غيره – صاحب القرار الأول فى شئون الدولة العثمانية جمعاء , ويستطيع بذلك أن يعيد بعثها على أسس قوية .
** إبراهيم باشا : كانت يتفق مع والده بشأن المشروع الإمبراطورى الشرقى , ولكن الاختلاف كان فى الشطر الآخر , أى أن فكرته كانت واضحة وجلية من مشروع قومى عربي يتبع مصر , وتدخل فى نطاقه تركيا وجوارها الأوروبى . أو لا تدخل .
** عباس باشا الأول : تبلورت فكرته على التماس الواقعى مع امكانيات مصر والطمع الدولي فيها . فأراد الانكفاء داخل الحدود الداخلية مع العمل على صيانتها وحمايتها تجاه اى قوى تطمح فى مصر , سواء عثمانية أو أوروبية . وتبدى ذلك من موقفه ازاء التنظيمات العثمانية , أو ازاء اغلاق نوافذ مصر أمام المنتج الأوروبى .. على الجانب الآخر كان عباسا مستعدا أن يطعم الحكم بالفكر الوهابى ويمنحه مسحة من الصوفية , فى اجراء لصد " الأوربة " عن مصر , وصد التنظيمات العثمانية ( الأوروبية أيضا ) .
** سعيد باشا : كانت فكرته أن تكون " مصر للمصريين " , أقترب من العجينة الشعبية , وكانت فكرته هى تمصير الدولة , أى التنائى بينها وبين المفردات والرموز والدلالات التركية , يتضح لنا هذا فى كافة أعماله , فهو أول من أصدر قرارا بتمصير لغة الدواوين – ولم يفعل هذا القرار فى عهده – وهو أول من منح الأرض للفلاحين , ووضع اللنبة الأولى للإقطاع المصرى , وأقر اول نظاما للمعاشات فى مصر , وترك أرباح القطن تصب فى جيوب الفلاحين لا الدولة .
** الخديو إسماعيل : أعاد إلى الأذهان فكرة المشروع الإمبراطورى مرة أخرى , ولكنه إلى الجنوب هذه المرة , فرض سيطرة مصر على منابع النيل وعلى كل حدودها الجغرافية الطبيعية , بالتوازى مع فكرة أخرى خاصة بالتنوير والتعمير . وقد حقق الأفكار الثلاث بنجاح منقطع النظير .
** الخديو توفيق : كانت لديه فكرة ليبرالية , وكان على استعداد أن يضع نفسه فى مكان الحكم بين السلطات , وأن يحكم بواسطة وزراءه على نهج النظام الديمقراطي الإنجليزى , لكن سواء العرابيين أو الإنجليز لم يسمحوا له بتجربة نفسه . كانوا هم أيضا على مستعدين لـ " ترميزه " ولكن ليس لصالح الديمقراطية , وانما لصالح أهدافهم الشخصية .
** الخديو عباس حلمي الثاني : كانت فكرة حكمه قائمة على التخلص من الاحتلال البريطاني بمساندة الدولة العثمانية , ثم التخلص من الدولة العثمانية . وفى كل الأحوال ينبغى صناعة حركة وطنية يدعمها القصر ثم تدعمه .
** الملك فؤاد : تبلورت فكرته جدا حول هيبة العرش ذاته , فقد استغل الحركة الوطنية لجعل مصر مملكة , ثم طلب من ملك إنجلترا تصريحا بجعل ابنه " الامير فاروق " وليا للعهد , ثم سن أغلب القوانين الخاصة ببروتوكول القصر الملكي . ولو طال الأمد بالعرش المصرى لأعتبر فؤاد هو المؤسس الثالث للأسرة العلوية .. بالتوازى مع ذلك كانت لديه فكرة أخرى خاصة بالتعمير يحاكي بها عصر محمد على وعصر إسماعيل , ولذا يصح أن نطلق على عهده ( عصر البناء الثالث ) .
** الملك فاروق : ألحت عليه فكرة الخلاص من الاستعمار البريطاني , فتحالف مع الألمان . وشهد عهده بالفعل تقلص الاحتلال البريطاني حتى رحيله – بإستثناء قاعدة قناة السويس – بفضل ضغوط الحركة الوطنية . وبدأ فاروق فكرة جديدة بعد أن استشعر وطأة الإنجليز تخف , فقد أراد مشروع قومي عربى فى الشرق تتزعمه مصر . وبدا هذا من موقفه ازاء المقاومة الفلسطينية والحركة الصهيونية , ومن إعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية , ومن بروتوكل مشروع اتحادى مع سوريا , وقبل كل ذلك مصاهرة بين العرش العلوى والعرش الشاهانى الإيراني , كانت أولى خطواته للتوجه نحو الشرق , مع الحفاظ على عرش وحدة وادى النيل فى الجنوب .. أيضا كانت لدى فاروق فكرة " زعامية " لم يهتم بها والده , أراد بالاتصال المباشر بالشعب وسحب بساط المحبة من تحت أقدام زعامات الحركة الوطنية , والتأكيد على صورة ( الملك الشعبى ) .. وإذا كنا رأينا فى عهد فؤاد كل الأغاني اتجهت إلى سعد زغلول باشا , ففى عهد فاروق توجهت الأغانى والأهازيج إليه .
هل كان ملوك الأسرة العلوية يتحركون اعتباطا , كلا , كل منهم كانت لديه فكرة ومشروع متسقا مع امكانيات بلده , والظروف الدولية , والأحوال التى وجد العرش عليا حين تولى . وكل فكرة احتاجت إلى استراتيجيات وتكتيك ومعلومات , انه عصر فى غاية الدسامة والتفاصيل لكل من أراد أن يتعلم سياسة .