عنوان / شجر الدر ، وحلوي ام علي
بقلم / محمد عاشور السحيلي
أدمنت القفز على العروش وعشقت الغوص في دهاليز السلطة،
زاحمت الرجال في عالم السياسة ولم تلتفت لصوت صليل السيوف، عرفت طريقها إلى "القلعة" وكانت تدرك أن نهاية الطريق ستقودها حتمًا إما إلى القصر وإما إلى القبر، إنها السلطانة شجر الدر التي جلست على عرش مصر لثلاثة أشهر، والتي تحل اليوم ذكرى مقتلها.
لا تمدنا المصادر التاريخية بتفاصيل كثيرة عن نشأة شجر الدر أو عن اسمها الحقيقي، واختلف المؤرخون حول أصلها فذهب المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" إلى أنها تركية أو أرمينية، لكن الثابت أنها دخلت إلى بلاط السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب من "باب الحريم".
بدأت شجر الدر طريقها إلى السلطة منذ أن اشتراها نجم الدين أيوب حين كان لا يزال أميرا في دولة أبيه السلطان الكامل، ومنذ أن دخلت شجر الدر إلى قصر الصالح وجدها تختلف عن باقي جواري القصر فقد كانت "قارئة ، كاتبة، ذات عقل وحزم، عارفة بأمور المملكة فحظيت عندها واعتقها، وأنجب منها ولده خليل الذى مات في حياته" بحسب ما أورده المؤرخ ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور.
أنفق السلطان الصالح نجم الدين أيوب سنوات حكمه التي امتدت لاثنتي عشرة عاما بين عامي (635-647هـ/ 1237-1248م) في حروب مع بنى عمومته من الأيوبيين والإمارات الصليبية في الشام، وكان يعهد بإدارة المملكة إلى شجر الدر عند غيابه.
في غضون ذلك انتاب السلطان الشك حيال قوات جيشه التي تتكون من الأكراد والخوارزميين الذين تفرقوا في مصر والشام إثر اجتياح المغول بقيادة جنكيز خان لبلادهم، وقد تنكروا للصالح أكثر من مرة وفاجأوه بالانسحاب من المعارك، فقرر إثر ذلك أن يتوسع في شراء الفتيان من أسواق الرقيق، وأن يتولى رعايتهم بنفسه، فيعلمهم مبادئ الدين وفنون العسكرية حتى يصبحوا مقاتلين أشداء لا يأتمرون سوى بأمر السلطان، وفى سبيل ذلك بنى لهم قواعد بحرية على منيل الروضة وأطلق عليهم "المماليك البحرية"، وألحق بعضهم بأبراج القلعة فسموا بـ"المماليك البرجية" لأنهم كانوا يسكنون أبراج القلعة.، وبهذا مهد الصالح لظهور المماليك على الخارطة السياسية والعسكرية لمصر، وجود لن ينتهى إلا بمذبحة القلعة في عهد الوالي محمد على باشا.
وما بين جارية تطمح في أن تكون رمانة ميزان السياسة في دولة زوجها، ومماليك طامحين لأن يستأثروا بالقوة العسكرية في أرض المحروسة، تلاقت الغايات، وسمح إشراف شجر الدر على شئون السلطنة بأن تحتك أكثر بكبار قادة المماليك، كانت الأوضاع السياسية والعسكرية عاصفة تعصف بالشرق الإسلامي، قوات جنكيز خان وأحفاده تسقط الدول الإسلامية في بلاد ما وراء النهر وصارت تهدد بغداد عاصمة الخلافة، والحملات الصليبية لا زالت في قوة على سواحل الشام.
في السنة الأخيرة من عهد السلطان الصالح نجم الدين أيوب، أرسل لويس التاسع ملك فرنسا برسالة تهديد إليه يهدده باقتلاعه عن عرش مصر، وفى وقت كان يعانى فيه مرض الموت أصر السلطان على أن يحمله قواده إلى المنصورة لحرب الصليبين الذين استولوا على دمياط وحولوا مسجدها إلى كاتدرائية، كانت تلك الظروف الصعبة الاختبار الحقيقي لشجر الدر وقوات المماليك، "سلطان على فراش الموت.. وسيدة تحكم خلف الستار.. وقوات لم تلتحم في حروب الصليبيين من قبل، وعدو يهدد قلب العروبة والإسلام".
وبينما توجه لويس التاسع تلقاء المنصورة توفى السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وأخفت شجر الدر خبر وفاته عن الجند حتى لا تضعف عزائمهم، وظل الأمر قاصراً على كبار القادة، وحُملت جثة السلطان سراً عبر النيل إلى منيل الروضة وسط تكتم شديد، لكن فداحة الأمر لم تقتصر على ذلك فحسب، فقد استشهد قائد الجيش فخر الدين بن شيخ الشيوخ في إحدى المعارك، وتسلم القيادة قائد المماليك البحرية فارس الدين أقطاي، والذى تمكن من هزيمة قوات لويس التاسع هزيمة مُذلة في المنصورة ، وأُسر ملكهم لويس التاسع في دار ابن لقمان وذلك في المحرم سنة 647هـ.
نجحت شجر الدر والمماليك معا في الاختبار الأصعب، وظهروا في صورة "فرسان الإسلام" والمدافعين عن رايته، وظهر إلى الوجود عدة قادة سيكون لهم فيما بعد اليد الطولي في قتال المغول والصليبيين، مثل المظفر سيف الدين قطز، والظاهر ركن الدين بيبرس، والمنصور سيف الدين قلاوون.
استدعت شجر الدر والمماليك السلطان توران شاه ابن استاذهم الراحل الصالح نجم الدين أيوب ، وظنوا أنه سيشكر صنيعهم في قتال الصليبيين بعد معركة المنصورة، لكنه تنكر لشجر الدر وأهانها وأهان معها المماليك فقتلوه.
اجتمع المماليك بعد مقتل توران شاه وأجمعوا أمرهم على تولية شجر الدر لمنصب السلطنة، وجلست على العرش يوم الثامن من صفر سنة 648هـ ، وألبسوها زي السلطنة، وبويعت أما قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز رغم معارضته لهذا الأمر، وأنعمت شجر الدر بالأموال والاقطاعات على أمراء المماليك، وخرجت المراسيم السلطانية منها ممهورة بتوقيع "والدة خليل"، وكان خطاء المنابر يدعون لها فى خطب الجمعة بعد الدعاء للخليفة العباسي فيقولوا :" واحفظ اللهم الجهة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، ذات الحجاب الجليل، والستر الجميل، والدة المرحوم خليل".
لقى هذا الأمر استنكارا واسعاً في العالم الإسلامي حتى أن الخليفة العباسي المستعصم أرسل إلى قادة المماليك بمصر قائلا لهم باستهزاء :" أعلمونا إن كان ما بقى عندكم من رجال فنرسل إليكم رجلاً".
أحيت هذه الدعوة أطماع ملوك بنى أيوب في الشام لحكم مصر، فأجمعوا رأيهم بأن يتزوج مدبر المملكة الأمير عز الدين أيبك من السلطانة شجر الدر، وبعد أخذ ورد وافقت شجر الدر على هذا الأمر، وخلعت نفسها من السلطنة بعد ثلاثة أشهر من توليها.
في البداية كان أيبك الذى تلقب بالمعز (648ـ655هـ) يستشير شجر الدر في شئون الحكم، ولا يقطع أمراً إلا بمشورتها، ونجحا معا في التخلص من أعتى خصومهم السياسيين والعسكريين ممثلاً في الأمير سيف الدين أقطاي، وشتتوا تلاميذه مثل بيبرس وقلاوون خارج مصر، واستتب الأمر للمعز أيبك.
لم تكن شجر الدر لترضى بدور سوى دور البطولة في حياة من يشاركها، لا تريد سوى العرش والسلطنة، هكذا كانت مع الصالح نجم الدين أيوب، وهكذا أصبحت حين صارت "السلطانة"، ولن تقبل أن تكون الجارية التي تنتظر سيدها في مخدعه، فأمرت أيبك بأن يُطلق زوجته "أم على" فرفض، ثم علمت بأنه يريد أن يخطب ابنة ملك الموصل بدر الدين لؤلؤ، وهى أميرة حرة، فاشتعلت "حرب الضرائر" في بلاط المعز أيبك.
توجس المعز خيفة من مكائد شجر الدر، وزاد من تخوفه ما أخبره به منجمه بأن حياته ستنتهى على يد امرأة، فترك القلعة وذهب إلى فصره بـ"مناظر اللوق" على نيل القاهرة، لكن شجر الدر ظلت تلاطفه حتى صعد إليها، وهناك أنهت حياته بمكيدة دبرتها مع بعض الخدم فقتلوه خنقاً في الحمام، وأشاعوا أن السلطان قد داهمه الموت فجأة، لكن هذه الحيلة لم يصدقها كبير قواده سنجر، وولده المنصور على، الذين قبضوا على شجر الدر وأودعوها "البرج الأحمر" فى قلعة الجبل".
وفى ذلك البرج كان مشهدا دمويا ينتظر شجر الدر ليكتب السطر الأخير من حياتها بلون الدم، فقد سلمها "المنصور علىّ" الذى صار سلطاناً لوالدته أرملة أيبك، التي أمرت جواريها بضرب شجر الدر بالقباقيب على رأسها حتى ماتت، ثم أمرت والدة السلطان بتجريدها من ثيابها وإلقاءها من أعلى أسوار القلعة في يوم السبت الثالث من مايو عام 1258، 23 من ربيع الأول سنة 655هـ .
ظلت شجر الدر في العراء ثلاثة أيام، حتى حملها رجل من العامة، وأودعها تربتها التي شيدها قرب ضريح السيدة نفيسة، وفرقت والدة المنصور علىّ الحلوى بالخلاص من غريمتها، وكانت تتكون من الدقيق واللبن والسكر والزبيب، وعلقت هذه الحلوى بأذهان المصريين فعُرفت باسم "أم على"، وهكذا أُسدل الستار عن أشهر النساء وصولاً إلى السلطة في التاريخ الإسلامي.