جريدة أثريون Atharyon

أحمد القاضي شاب مصري مهتم بالتاريخ والاثار مدرب علي شرح التاريخ و المواقع الأثرية حاصل علي عديد من كورسات الارشاد السياحي ودورات اخري

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام

عنوان / العز بن عبد السلام



ولد العز بن عبد السلام بدمشق باتفاق المصادر والمراجع التي ترجمت له وعرضت سيرته.
 أما تاريخ ولادته فحصل فيها اختلاف، فذهب كثيرون إلى تحديد تاريخ ولادته سنة 577هـ، وقال آخرون: إنها سنة 578هـ، وتشكك فريق ثالث بين السنتين، وحاول بعض الباحثين ترجيح الأول، ورجح بعضهم الثاني، وتوقف فريق عن الترجيح لعدم التأكد من ذلك، وعدم توفر النص القاطع أو المرجح في ذلك.


كانت دمشق في زمن العز بن عبد السلام حاضرة العلم والعلماء منذ العصر الأموي، يقطنها العلماء من كافة الفنون، ويجتمع فيها أئمة العلم البارعون، ويقصدها الطلبة من كافة الأصقاع، وكان المسجد الأموي جامعةً للعلوم والطلاب والعلماء. ويظهر من سيرة العز بن عبد السلام أنه عاش في أسرة فقيرة مغمورة، فلا يوجد ذكر صريح لأبيه وأمه، أو أجداده وأعمامه وأخواله، أو أي شيء عن مراحل طفولته، وكل ما تذكره المصادر أنه ابتدأ العلم في سن متأخرة، يقول ابن السبكي عن والده:

«سمعت الشيخ الإمام يقول: «كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيراً جداً، ولم يشتغل إلا على كِبَر (أي في العلم)، وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلّاسة (وهي الزاوية والبناء والمدرسة عند الباب الشمالي للجامع الأموي) من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد، فاحتلم، فقام مسرعاً ونزل في بِركة الكلّاسة، فحصل له ألم شديد من البرد، وعاد فنام، فاحتلم ثانياً، فعاد إلى البِركة؛ لأن أبوابَ الجامع مُغلقةٌ، وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأُغمي عليه من شدة البرد»، أنا أشك، هل كان الشيخ الإمام يحكي أن هذا اتفق له ثلاث مرات أو مرتين فقط، ثم سمع النداء في المرة الأخيرة: «يا ابنَ عبدِ السلام، أتريد العلمَ أم العمل؟» فقال الشيخ عز الدين: «العلم؛ لأنه يهدي إلى العمل»، فأصبح، وأخذ "التنبيه" فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم، فكان أعلم أهل زمانه، ومن أعبد خلق الله تعالى.

وتوجه العز إلى طلب العلم بجد واجتهاد وهمة عالية؛ ليُعَوِّض ما فاته في المدة السابقة من طفولته وصباه، فقصد العلماء وجلس في حلقاتهم، ينهل من علومهم، ويكب على الدراسة والحفظ، والفهم والاستيعاب، حتى حفظ "التنبيه" في فينة قصيرة، واجتاز العلوم بمدة يسيرة، وهو ما تحدث به عن نفسه فقال: «ما احتجتُ في عِلم العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنتُ أقرأ عليهم إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيتَ عني فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرحُ حتى أكمل الكتاب الذي أقرؤه في ذلك العلم». وكان يقول: مضت لي ثلاثون سنة لا أنام حتى أُمِرَّ أبوابَ الأحكام على خاطري.

وجمع العز في تحصيله بين العلوم الشرعية والعلوم العربية، فدرس التفسير وعلوم القرآن، والفقه وأصوله، والحديث وعلومه، واللغة والتصوف، والنحو والبلاغة، وعلم الخلاف. ولم يكتف العز بدراسة هذه العلوم، ولكنه تفوق في معرفتها والتأليف فيها، ولذلك قال ابن العماد الحنبلي: «وبرع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف أقوال الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد».

رحلته إلى بغداد

قضى العز معظم حياته في دمشق، وكان أكثر تحصيله وطلبه للعلم على علمائها، ولكنه ارتحل عنها ثلاث مرات لأغراض مختلفة، الأولى: رحلته إلى بغداد، والثانية: رحلته إلى مصر، والثالثة: رحلته إلى الحجاز بقصد الحج والعمرة، وكانت هذه الأخيرة في الغالب بعد سنة 644هـ، وكان قد بلغ في العلم غايته، وبعد أن عزل نفسه عن قضاء مصر، وكان الناس يقصدونه هناك بالفتوى والأخذ عنه.

أما رحلته إلى بغداد، فقد ذكرت المصادر التي ترجمت له أنه ازداد شغفاً بالعلم وتحصيله، ورحل في ريعان شبابه إلى بغداد، حاضرة الخلافة العباسية، وموئل العلم والعلماء، ومقصد الطلاب من كافة الأقطار، وعاصمة الثروة العلمية والمكتبات الزاخرة، فقصدها العز سنة 597هـ، وأخذ بعض العلوم والمعارف، وأقام بها أشهراً فقط، فسمع الحديث من أبي حفص بن طَبَرْزد، وحنبل بن عبد الله الرصافي. قال ابن رافع السلامي: «وسمعت بعض المحدثين يقول: إنه دخل بغداد في طلب العلم، فوافق يومَ دخوله موتُ الحافظ أبي الفرج بن الجوزي... وكان ذلك في سنة 597هـ». وبعد أن نال العز مبتغاه وحصّل مقصده في بغداد، عاد إلى دمشق.

محنته مع الملك الأشرف موسى

تمثل هذه القضية أول مواقف العز بن عبد السلام بدمشق، وصدامه مع الملك الأشرف موسى الأيوبي، وكان العز قد ذاع صيته واشتهر علمه، وظهرت شخصيته في الحياة العلمية وعلى المستوى الرسمي والشعبي، وكان العز على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري من أهل السنة والجماعة في العقيدة وصِفات الله تعالى، ومنها صفة الكلام، ويقول: «إن كلام الله تعالى معنى قائم بذاته، قديم أزلي، وليس بحرف ولا صوت»، خلافاً لبعض الحنابلة، وكان الملك الأشرف يميل إلى الحنابلة ويستمع إليهم، فاستغلوا ذلك وأوغروا صدره على العز، فوقعت الواقعة. وأحداث الفتنة طويلة، خلاصتها ما نقله محمد الزحيلي عن عبد اللطيف بن العز بن عبد السلام:

«لما وصل إلى الملك الأشرف ما عليه الشيخ عز الدين من القيام لله والعلم والدين، أحبّه وصار يلهج بذكره، ويؤثر الاجتماع به، والشيخ لا يجيب إلى الاجتماع. وكانت طائفة من الحنابلة القائلين بالحَرْف والصوت، ممن صحبهم السلطان في صغره، يكرهون الشيخ عز الدين، ويطعنون فيه... فلما أخذ السلطان في الميل إلى الشيخ عز الدين دسّت هذه الطائفة إليه، وقالوا: «إنه أشعري العقيدة، يُخطِّئ من يعتقد الحرف والصوت ويبدِّعه»، فاستهال ذلك السلطان واستعظمه، ونسبهم إلى التعصب عليه، فكتبوا فتيا في مسألة الكلام، وأوصلوها إلى مريدين أن يكتب عليها، فيَسْقُطُ موضِعُه عند السلطان.
وكان الشيخ العز قد وصله كل ذلك، فلما جاءته الفتيا قال: «هذه الفتيا كتبت امتحاناً لي، والله لا كتبت فيها إلا الحقّ»، فكتب "العقيدة المشهورة"، ومما جاء فيها: «واعتقاد الأشعري رحمه الله مشتمل على ما دلّت عليه أسماء الله التسعة والتسعون، التي سمّى الله بها نفسه في كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم... فإن زعموا أن القرآن مكتوب في المصحف غيرُ حالٍّ فيه، كما يقول الأشعري، فلِمَ يطعنون الأشعري رحمه الله...».
فلما فرغ من كتابة ما رامُوه رَماه إليهم، وهو يضحك عليهم، فطاروا بالجواب، وهم يعتقدون أن الحصول على ذلك من الفرص العظيمة التي ظفروا بها، ويقطعون بهلاكه واستئصاله واستباحة دمه وماله، فأوصلوا الفتيا إلى الملك الأشرف رحمه الله، وذلك في حفلة الإفطار في رمضان بالقلعة، وعنده عامة الفقهاء من جميع الأقطار، فلما وقف عليها استشاط غضباً، وقال: «صح عندي ما قالوه عنه، وهذا رجل كنا نعتقد أنه مُتوحِّد في زمانه في العلم والدِّين، فظهر بعد الاختبار أنه من الفُجّار، لا بل من الكفار»، ولم يستطع أحد أن يرد عليه، وقال أقواهم شكيمة: «السلطان أولى بالعفو والصفح، ولا سيّما في مثل هذا الشهر»، وانتشر الخبر في البلد، واشتغل الناس بما جرى، حتى أقام الحقَّ الشيخُ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب، ومضى إلى القضاة والعلماء الأعيان الذين حضروا عند السلطان، وشدّد عليهم النكير، وطلب منهم أن يبينوا للسلطان «أن كلام الشيخ العز مذهبهم، وهو مذهب أهل الحق»، فكتبوا فتيا بموافقة العز، وطلبوا أن يُعقد مجلسُ مناظرةٍ بين العز وخصومه، ويَحضُرَ أهلُ المذاهب الأربعة، وأن العلماء لم يُمْكِنْهم الكلامُ بمجلس السلطان لغضبه وما ظهر من حدّته في ذلك المجلس، وقالوا للسلطان: «الذي نعتقده في السلطان أنه إذا ظهر له الحق يرجع إليه، وأنه يعاقِب من موّه الباطل عليه».
ولما وصل الأمر للسلطان تراجع عن بعض موقفه واعتدل قليلاً، ورفض الاجتماع مع الشيخ العز، وكتب له رسالة يدافع فيها عن عقيدته باتباع الخلفاء الراشدين، ويلمز بالشيخ العز في إثارة الفتنة، وادعاء الاجتهاد لمذهب خامس في العقيدة. ولما وصلت الرسالة للشيخ العز قرأها وطواها، وشرع بالجواب بأشد منها، وأبلغ من سابقتها، ومما جاء فيها: «وأما طلب المجلس وجمع العلماء، فما حملني عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين... وليس ردُّ البِدع وإبطالها من باب إثارة الفتن، فإن الله سبحانه أمر العلماء بذلك، وأمرهم ببيان ما علموه، ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله، لا يجوز أن يلعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم... وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس، فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد، والخلاف في الفروع... وبعد ذلك فإنا نزعم أنّا من جُملة حِزب الله، وأنصار دينه وجنده، وكل جندي لا يُخاطر بنفسه فليس بجندي».
... ولما عاد الرسول إلى السلطان، وقرأ الرسالة، اشتدت استشاطته، وعظم غضبه، وتيقن الحنابلة تلف الشيخ وعطبه، واستدعى أستاذ الدار، وحمّله رسالة إلى الشيخ، وفيها «إنا قد شرطنا عليه ثلاثة شروط: أنه لا يفتي، ولا يجتمع بأحد، ويلزم بيته». وسُرّ الشيخ العز بالرسالة، ولزم بيته، وبقي ثلاثة أيام، حتى قام الشيخ العلامة جمال الدين الحصيري شيخ الحنفية في زمانه، وكان له مكانة عالية عند الملك، فدخل عليه وبيّن له «فضل الشيخ العز، وصحة ما يقول، وهو اعتقاد المسلمين، وكل ما قاله صحيح في الرسالتين».
وهنا قال السلطان: «نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط في حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء»، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه، وطلب محالَلَته ومخالَلَته، وطلب من الفريقين الإمساكَ عن مسألة الكلام، وألا يفتيَ فيها أحدٌ بشيء.
ولما وصل الملك الكامل من الديار المصرية، وكان قد سمع ما جرى في دمشق، فرام الاجتماع بالشيخ العز، واعتذر إليه، وأمره أن يكتب ما جرى في هذه القضية مستقصى، ولما اجتمع بالملك الأشرف عنّفه على موقفه في المنع من الكلام في المسألة، وقال له: «تُساوي بن أهل الحق والباطل؟ وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وكان الطريقُ أن تمكَّن أهل السنة من أن يلحَنوا بحُججهم، وأن يُظهروا دينَ الله...». وانقشعت المسألة للسلطان الملك الأشرف، وصرّح بخجله وحيائه من الشيخ، وقال: «لقد غلطنا في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة»، وصار يترضاه ويعمل بفتاويه وما أفتاه، ويطلب أن يُقرأ عليه تصانيفه الصغار».»
موقفه من تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين عدل
لما مرض الملك الأشرف موسى مرض الموت، طلب من العز بن عبد السلام الزيارة والنصح والدعاء، فأشار عليه العز بإبطال المنكرات ورد المظالم، وتطبيق الشرع والالتزام بالقرآن والسنة، فأمر السلطان المريض أخاه إسماعيل (الذي يتولى السلطنة بالنيابة) بتنفيذ ما أمر به الشيخ العز، وإبطالِ ما يرى إبطالَه، ثم توفي الملك الأشرف سنة 635هـ، فخلفه أخوه الملك الصالح إسماعيل. ولم يكن إسماعيل على وفاق مع العز منذ حياة أخيه الأشرف، فكان إسماعيل سيء الظن بالعز، ولكنه لم يجرؤ على عزله من خطابة الجامع الأموي أو الإساءة إليه؛ لما رآه من تكريم الأشرف موسى والملك الكامل للعز وإكبارهما إياه، ولِمَا يتمتع به العز من مكانة مرموقة في المجتمع، وثقة وحب من جمهور المسلمين. ولَمَّا أمر الأشرفُ نائبَه وأخاه إسماعيل بإبطال المنكرات التي أشار إليها العز، نفذ بعضها وأغفل بعضاً آخر.


ولما توفي السلطان الأيوبي الكامل محمد بن العادل حصل نزاعٌ على خلافته، وانتهت السلطة إلى ابنه الأكبر الصالح أيوب، فاتجه إلى الشام بعد أن استقر له الأمر في مصر، وعزم على ضمها إلى ملكه، لأنها كانت في الأصل تابعة لوالده الكامل، فخاف إسماعيل من تهديد الصالح أيوب «خوفاً مَنَعَهُ المنامَ والطعامَ والشرابَ»،ولم يتحرج إسماعيل من اللجوء إلى الصليبيين أعداء المسلمين، فتحالف معهم لينجدوه من الصالح أيوب ويساعدوه عليه، وسلّم إليهم لقاء ذلك صيدا والشقيف وصفد وغير ذلك من حصون المسلمين، وذلك سنة 638هـ. وزيادةً على ذلك، أذن إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، فغضب العز بن عبد السلام، وشق عليه ما حصل مشقة عظيمة.

وبدأت الجولة الأولى باستفتاء العز في مبايعة الفرنج للسلاح، فقال: «يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين»، ثم صعد منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة، وشنّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة، وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله، ويقول: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُعمَل فيه بطاعتك، ويُنهى فيه عن معصيتك»، والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على الأعداء.


وكان إسماعيل خارج دمشق، فلما وصله الخبر أحسّ بالخطر الذي يحدق به، والثورةِ المتوقَّعةِ عليه، فسارع إلى إصدار الأمر الكتابي بعزل العز من الخطابة والإفتاء، وأمر باعتقاله، واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكي الذي شاركه في الإنكار على فعل السلطان، ولما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما، وألزم العز بملازمة داره، وألا يفتي.
 وتلقى العز العزل راضياً مرضيّاً، ولكنه ضاق بالإقامة الجبرية وتعطيل العمل المسؤول عنه شرعاً، فقرر مغادرة دمشق، فاتجه إلى مصر عن طريق القدس، سنة 638هـ.

استمر إسماعيل في مطاردة العز وهو في طريقه إلى القدس، وأراد مساومته بالتراجع عن رأيه والاستسلام للسلطان، يقول عبد اللطيف بن العز بن عبد السلام محدثاً عما حدث لوالده:

«وأُخرج الشيخ (أي من السجن) بعد محاورات ومُراجعات، فأقام مدة بدمشق، ثم انتزح عنها إلى بيت المقدس، فوافاه الملك الناصر داود (ابن الملك المعظم عيسى أخي الملك إسماعيل) في الغور، فقطع عليه الطريق وأخذه، فأقام عنده بنابُلس مدة، وجرت له معه خطوب، ثم انتقل إلى بيت المقدس وأقام به مدة... ثم جاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حمص وملوكُ الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية... فسيّر الصالح إسماعيل بعض خَواصّه إلى الشيخ بمِنْدِيله، وقال له: «تدفع منديلي إلى الشيخ، وتتلطف به غاية التلطف، وتستنزله وتَعِدُه بالعَوْد إلى مناصبه على أحسن حال، فإن وافقك فتدخل به عليّ، وإن خالفك فاعتَقِله في خيمة إلى جانب خيمتي»... فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مُسايسته وملاينته، ثم قال له: «بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسِر للسلطان، وتقبّل يدَه لا غير»... فقال له: «يا مسكين، ما أرضاه أن يُقبل يدي، فضلاً أن أقبّل يده، يا قوم، أنتم في وادٍ، وأنا في وادٍ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به»... فقال له: «قد رسم لي إن لم تُوافق على ما يُطلب منك وإلا اعتقلتُك»، فقال: «افعلوا ما بدا لكم»، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان 
وأراد إسماعيل أن يتبجح أمام الصليبيين بما فعل بالعز، وكان العز يقرأ القرآن، والسلطان يسمعه، فقال لملوك الصليبيين: «تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟» قالو: «نعم»، قال: «هذا أكبر قُسُوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره عليَّ تسليمي حُصُون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس، وقد جَدّدتُ حبسه واعتقاله لأجلكم»، فقالت له ملوك الفرنج: «لو كان هذا قِسِّيسَنا لغَسلنا رجليه وشربنا مَرَقَتها». وبقي العز في المعتقل حتى جاءت العساكر المصرية، فانتصروا وقتلوا عساكر الفرنج بالقدس، وانهزم أعوانهم، ونجى العز بن عبد السلام فتابع سيره إلى الديار المصرية، فأقبل عليه السلطان الصالح أيوب، وولاه خطابة مصر وقضاءها، وفوَّض إليه عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة.

بيع الأمراء في المزاد عدل
وصل العز بن عبد السلام إلى مصر سنة 639هـ، فلقيه في مصر الملك الصالح أيوب، فاستقبله استقبالاً حافلاً، وأكرمه غاية الإكرام والإجلال، وعيّنه في أعلى المناصب في خطابة جامع عمرو بن العاص وقضاء القضاة.

يوصف الصالح أيوب بأنه كان طموحاً، فعندما أراد أن يُقوِّيَ جيشَه ويَصطفيَ قُوَّادَه ويَحميَ نفسَه، اشترى (من مال الدولة) المماليك الأتراك، واستجلبهم من أواسط آسيا وغربها، ودَرَّبهم على الفروسية والفُتوَّة والقتال، حتى نالوا ثقته، فاتسع نفوذهم حتى صاروا أمراءَ الجيش وقادتَه، وبلغ أحدُهم أن صار نائب السلطان مباشرة، فلما تولى العز منصب قاضي القضاة، اكتشف الخلل في الإدارة والسلطة، وأن القادة الأمراء لا يزالون في حكم الرق لبيت مال المسلمين، ولم يَثبُتْ عند الشيخ أنهم أحرار، وبالتالي فإن الحكمَ الشرعي عدمُ صحة ولايتهم من جهة، وعدمُ نفوذ تصرفاتهم الخاصة والعامة من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن العز لم يُشهر بهم، ولم يرفع راية العصيان المسلح عليهم، وإنما بلّغهم ذلك أولاً، وأوقف تصرفاتهم ثانياً، «ولم يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطان»، فلما بلغهم ذلك عظم الخطب عليهم، واضطرب أمرهم، واستشاطوا غضباً، وثارت ثائرتهم، ولكنهم كبحوا جماح الغضب، وجاؤوا للعز بالحسنى والمساومة، واجتمعوا به للاستفسار عن مصيرهم في رأيه، فصمم على حكم الشرع وأنه يجب بيعهم لصالح بيت المال، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحراراً، ثم يتولوا تصريف الأمور، وقال لهم بكل وضوح وصراحة: «نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي»، فرفضوا واستكبروا، ولم ينفردوا باتخاذ القرار بشأن العز، فرفعوا الأمر إلى السلطان أيوب، فبعث إليه وراجعه، فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمةٌ فيها غلظة على العز، وحاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر الذي لا يعنيه ولا يتعلق به.

وهنا أدرك العز أن الأمراء تمالؤوا عليه، ووقفوا في وجه ما يعتقد أنه الحق وتطبيق الشرع، فأعلن الانسحاب، وعزل نفسه عن القضاء، وقرر الرحيل، ونفذ قراره فوراً، فحمل أهله ومتاعه على حمار، وركب حماراً آخر، وخرج من القاهرة. وما أن انتشر الخبر في الشعب إلا وأعلن الناس الوقوف بجانب العز، وقرروا العصيان غير المسلح بالالتحاق بالعز، فلم يصل العز خارج القاهرة إلا قليلاً حتى لحقه غالب المسلمين من العلماء والصلحاء والتجار، حتى النساء والصبيان. فقال قائل للسلطان: «أدرك ملكك، وإلا ذهب بذهاب الشيخ»، فركب السلطان بنفسه، ولحق بالشيخ العز، واسترضاه وطيَّبَ قلبه، وطلب منه الرجوع والعودة إلى القاهرة، فوافق العز على شرطه بأن يتمّ بيع الأمراء بالمناداة عليهم، ورجع الجميع إلى القاهرة.

وبعد ذلك حاول نائب السلطنة التدخل بالملاطفة، ثم بالتهديد والوعيد، ثم بمحاولة التخلص من الشيخ وقتله، فلما فشلت محاولاته، أذعن الأمراء للأمر، واستسلموا لحكم الشرع، وأُعلنَ المزادُ العام، ووقف العز ينادي على أمراء الدولة واحداً واحداً، ويغالي في ثمنهم، وتدخّل الشعب في المزايدة، حتى إذا ارتفع السعر إلى أقصى غايته وعجز الأفراد عنه قام السلطان أيوب بدفع الثمن من ماله الخاص، ليتملك الأرقاءَ الأمراءَ، ثم أعتق رقابهم فصاروا أحراراً، واحتفظ بهم قادة، وقبض الشيخ العز الثمن فوضعه في بيت مال المسلمين ليُصرف في شؤونهم العامة ووجوه الخير المختلفة، قال ابن السبكي: «وهذا لم يُسمع بمثله عن أحد رحمه الله تعالى ورضي عنه».

إسقاط عدالة الوزير وهدم قاعته

لم تمض سنة على الحادثة السابقة (بيع الأمراء) حتى وصل إلى علم العز بن عبد السلام ما فعله أستاذ الدار عند السلطان (وهو ما يعادل اليوم كبير أمناء الحاكم)، وهو معين الدين بن شيخ الشيوخ، والذي كان يجمع إلى منصبه اختصاصات الوزير وقائد الجيش، لكنه يوصف بأنه «كان مُتحلِّلاً وعابثاً ومُعْتَدّاً بقوته ومنصبه، ولذلك تجرأ على منكر كبير، يخالف أحكام الدين ويَسخَر بالشرع، ويُسيء إلى مشاعر المسلمين، فبنى فوق أحد مساجد القاهرة طبلخانة أي قاعة لسماع الغناء والموسيقى، وذلك سنة 640هـ».

وما أن ثبت ذلك عند العز وهو يتولى منصب قاضي القضاة حتى غضب، وأصدر أمره بهدم البناء، ولكنه خشي من الجُبن في التنفيذ أو المعارضة في الهدم، فقام بنفسه وجمع معه أولاده والموظفين عنده وذهب إلى المسجد، وحمل مِعْوله معهم، وقاموا بإزالة المنكر وهدم البناء المستحدث فوق المسجد. ولم يكتف العز بهذا التحدي للوزير والسلطان معاً، بل أسقط عدالة الوزير بما يعني عدم قبول روايته وشهادته، وعَزَلَ نفسَه عن القضاء؛ حتى لا يَبقى تحت رحمة السلطان وتهديده بالعزل أو غيره.

وكان لهذا العمل دويٌّ هائلٌ وأثرٌ عجيبٌ، وتنفس الناسُ الصعداءَ من تسلط الحكام وارتكاب المخالفات وممارسة التجاوزات الشرعية، ولم يجرؤ أحد أن يمس العز بسوء، بل أدرك السلطان أيوب أن الحق مع العز، وتلطف معه للعودة إلى القضاء ولكنه أصر على ذلك. وطار الخبر في الآفاق حتى وصل إلى الخليفة العباسي في بغداد، قال ابن السبكي: «واتُّفق أن جهّز السلطانُ الملكُ الصالحُ رسولاً من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد، فلما وصل الرسول إلى الديوان ووقف بين يدي الخليفة وأدى الرسالة، خرج إليه وسأله: «هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟» فقال: «لا، ولكن حمَّلَنيها عن السلطان معين الدين بن شيخ الشيوخ أستاذ داره»، فقال الخليفة: «إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام، فنحن لا نقبل روايته»، فرجع الرسول إلى السلطان (بمصر) حتى شافهه بالرسالة، ثم عاد إلى بغداد، وأدَّاها».

قتاله للصليبيين

شارك العز بن عبد السلام عملياً في الجهاد والقتال ضد الصليبيين الذين اتجهوا لاحتلال دمياط وسائر مصر بعد أن وصلوا إلى المنصورة، واستظهروا على المسلمين، فهّبَّ الجيشُ المسلمُ في مصر لمواجهة الغزاة، قال ابن السبكي: «وكان الشيخ (العز بن عبد السلام) مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخُ حالَ المسلمين نادى بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح «يا ريحُ خُذيهم» عدة مرات، فعادت الريح على مراكب الفرنج فكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثرُ الفرنج، وصرخ من بين يدي المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً سخّر له الريح»،وكان النصر المبين للمسلمين، واعتبر المؤرخون هذه الصيحةَ من كرامات العز بن عبد السلام.

دعوته لقتال التتار

قبِل سيف الدين قطز فتوى العز بن عبد السلام وبدأ بنفسه فباع كل ما يملك وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع وامتثلوا لأمره، وجُمعت هذه الأموال فضُربت سكاً ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش لمحاربة التتار في معركة عين جالوت.

عندما كان العز بن عبد السلام بمصر سنة 657هـ، تقدم التتار بعد سقوط بغداد إلى الشام، واستولوا على بعض مدنها، ليواصلوا الطريق إلى مصر، وكان على عرش مصر شاب صغير، وبَعَثَ ملكُ حلب الناصرُ يوسف يطلب النجدة على قتال التتار، فجمع سيف الدين قطز العلماء والأعيان والفقهاء والقضاة لمشاورتهم في الأمر لمواجهة التتار، وحضر الشيخ العز، وعمره ثمانون سنة، وطُرحت المشكلة في استيلاء هولاكو على البلاد، وأن بيت المال خالٍ من الأموال، والسلطان صغير السن، قال ابن تغري بردي: «وأفاضوا في الحديث، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام»، وسكت الأمراء والقضاة والعلماء، ولم يَجْرُؤ أحد على الاعتراض على عزم الملك الجديد قطز في فرض الضرائب على الشعب دون الأمراء وبيت السلطان، وهنا ظهرت نصيحة العز الجريئة والحازمة، فأفتى بخلع السلطان الصغير، وجواز تعيين ملك قوي مكانه، وهو قطز، ثم وجَّه له النصيحة في أمر الضرائب مدافعاً عن الشعب ومبيّناً للحق، فقال: «إذا طَرَقَ العدوُّ بلادَ الإسلام وجب على العالَم قتالُهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم، بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء من السلاح والسروج الذهبية والفضية والكبابيس المزركشة وأسْقاط السيوف والفضة وغير ذلك، وأن تبيعوا مالكم من الحوائص الذهبية والآلات النفيسة، ويقتصرَ كلُّ الجند على سلاحه ومركوبه، ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا».

مبايعة الظاهر بيبرس

ولمّا أراد الظاهر بيبرس أن يستلم السلطة والحكم، استدعى الأمراء والعلماء لمبايعته، وكان بينهم العز بن عبد السلام الذي فاجأ الظاهر بيبرس بكل جرأة وشجاعة وقال له: «يا ركن الدين، أنا أعرفك مملوك البندقدار»، أي لا يصح مبايعة المملوك في استلام السلطة، فأحضر بيبرس ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك الصالح أيوب، وأن الصالح أيوب قد أعتقه، وهنا تقدم العز وبايعه على الملك، وكان الظاهر بيبرس «يعظم الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاويه»،وقال السيوطي عن الظاهر بيبرس: «وكان بمصر منقمعاً تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن».

وفاته
توفي العز بن عبد السلام في جُمادى الأولى سنة 660هـ (1262م) باتفاق المؤرخين وعلماء التراجم، وقد بلغ ثلاثاً وثمانين سنة من العمر. ولكن علماء التراجم والتاريخ اختلفوا في يوم وفاته، فنقل ابن السبكي عن عبد اللطيف بن العز أن «وفاة الشيخ في تاسع جمادى الأولى، في سنة ستين وستمائة»، وقال ابن السبكي بعد ذلك: «توفي في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة بالقاهرة».وشك أبو شامة المقدسي قائلاً: «إن وفاته كانت يوم الأحد عاشر جمادى الأولى أو الحادي عشر».

وحُكي أن شخصاً جاء إليه فقال له: رأيتك في النوم تُنْشد:

وكنتُ كذي رِجْلين: رِجْلٌ صحيحةٌ ورِجْلٌ رمى فيها الزّمانُ فشُلَّتِ
فسكت ساعةً ثم قال: «أعيش من العمر ثلاثاً وثمانين سنة، فإن هذا الشّعرَ لكُثَيّر عَزّة، ولا نسبة بيني وبينه غير السن، أنا سُنّي وهو شيعي، وأنا لست بقصير وهو قصير، ولست بشاعر وهو بشاعر، وأنا سُلَميّ وليس هو بسُلَمي، لكنه عاش هذا القدر». قال ابن السبكي: «فكان الأمر كما قاله رحمه الله تعالى».

ودُفن العز يوم الأحد العاشر من جمادى الأولى قُبيل الظهر، في آخر القرافة بسفح المقطم من ناحية البركة، وكان يومُ دفنه مشهوداً، وحضر جنازتَه الخاصُّ والعامُّ من أهل مصر والقاهرة، وشارك في الجنازة خلائقُ لا تُحصى، وصلى عليه ملكُ مصر والشام الظاهر بيبرس.
وقد تأثر الظاهر بيبرس من وفاة العز، وتأسف على موته أثناء دولته فقال: «لا إله إلا الله، ما اتَّفَقَتْ وفاةُ الشيخ إلا في دولتي»، وشيّع أمراءَه وخاصتَه وأجنادَه لتشييعِ جنازته، وحَمَلَ نعشَه وحَضَرَ دفنَه.

كما تأثر عامةُ المسلمين بوفاة العز؛ لفضله وعلمه ومواقفه، فخرجوا في جنازته، وأقيمت صلاة الغائب عليه في جميع ديار مصر وبلادها والبلاد الشامية إلى قاطع الفرات والبيرة والرحبة، ثم بالمدينة المنورة ومكة المكرمة واليمن. وحزن أهل دمشق خاصة على ابنهم وعالمهم وقاضيهم، فصلَّوا عليه يومَ الجمعة في الجامع الأموي وجوامع أخرى، ونادى النصير المؤذن بعد الفراغ من صلاة الجمعة: «الصلاة على الفقيه الإمام، الشيخ عز الدين بن عبد السلام»، وعُمل العزاء للشيخ العز بجامع العقيبة المعروف الآن بجامع التوبة، وذلك يوم الاثنين 25 جمادى الأولى سنة 660هـ.

عن الكاتب

Ahmed Elkady

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

جريدة أثريون Atharyon