جمال الدين الأفغاني
لم يسع للمنصب ولا للجاه عاش بلا زوجة فمن منفى إلي منفي لكنه كان أسعد المخلوقات
لم يسعَ للمناصب؛ ولا للجاه؛ عاش بلا زوجة؛ فمن منفى إلى منفي؛ لكنه كان أسعد المخلوقات»
!فأى رجلٍ هذا؛ الذى خضعت له أرواح العلماء؛ وهفت إليه نفوس الحُكّام؛ واشرأبت إليه أفئدة الشباب؛ من شتى المشارب والألوان واللغات؛ وانزوت له مدن الشرق والغرب؛ فساح فيها؛ ينشر الفكر والإصلاح والتجديد والنهضة؛ حتى صار زعيماً؛ بلا مالٍ، ولا سلطةٍ؟!
فمن قبله؛ عرف الشرق المصلحين، والمجددين؛ لكنه ما عرف المجدد السائح فى بلاد الشرق والغرب؛ والمناضل من أجل قضية واحدة؛ هى قضية النهضة؛ التى أخلص لها؛ ومات بسببها! فهذا؛ هو جمال الدين الأفغانى «أكتوبر 1839-1897م»؛ وتلك هى بعض جوانب عظمته وعبقريته!
رجلٌ؛ أعجمي؛ يتكلم اللغة العربية الفصحي؛ مع لكنةٍ؛ تستميل إليه ألباب مستمعيه؛ وتخطف إليه الأنظار والأرواح؛ وصفه الدكتور شبلى شميل فى مذكراته؛ فقال معجباً بذكائه الخارق للقلوب:«من لوامع عصره عالماً واسع الاطلاع فى علوم الأقدمين وفلسفتهم؛ ذا ذكاءٍ مفرط، وأدب رفيع، على شجاعة فى القول لا تصدر إلا عن نفوس مستقلة كريمة. وكان ذا حديث طلى شهي، لا يمل منه سامعه مع فصاحة عربية .. وهو لم يعرف لغة من لغات الإفرنج الحافلة الأفكار المديدة، وبالعلوم الحديثة، ولكنه كان ذا مقدرةٍ عجيبةٍ على التحصيل؛ حتى إنه ليستفيد منكَ الشيء الجديد، ويصبه فى قوالب المعلوم المختمر فيه، ويوهمك أنه معروف له منذ زمنٍ طويل»!
قال عنه الفيلسوف المستشرق أرنست رينان: «كنتُ وأنا أُحَدِّث جمال الدين الأفغاني؛ كأنى أُحَدِّث ابن سينا وابن رشد»!
عاش الافغاني؛ وهو فيلسوفٌ بحق؛ فإنْ أفتى أحداً فى الفقه؛ ففتواه؛ فيها من أدلة الشرع؛ بمقدار ما فيها من أدلة المنطق؛ وعلل الفلسفة؛ لذلك؛ كانت تقوم عليه ثائرة التقليديين فى الأستانة، والأزهر الشريف! وفى اشتغاله بالسياسة؛ والإصلاح؛ كان فيلسوفاً عملياً؛ يجاهر بآرائه ومعتقداته؛ ويبنى مدينته الفاضلة؛ على أساس العدل، والتسامح، والوئام بين جميع الملل والنِّحَل والأديان واللغات؛ فلا فرق بين دين سماوي، وآخر وضعي؛ فالكل إخوة فى الإنسانية؛ طالما أنهم يعيشون بكرامةٍ، ومساواة!
كان الأفغاني؛ يتحلى بشمائل أصحاب النفوس الكبيرة؛ لذلك؛ انجذب له من الساسة، والعامة، والنخبة؛ ما لا يمكن اجتماعهم إلا حول شخصه! فما علينا لو استعرنا عن الأفغاني؛ كلام سومرست موم فى كتابه الرائع «أنماط غريبة من الحب» عن أحد أبطال قصصه؛ كان: «يتحلى بطباع وأخلاق الملائكة»!
إذن؛ فجمال الدين؛ عاش للإصلاح الكبير؛ فى الشرق؛ فذهب بفلسفته الجديدة هذه إلى كل مكانٍ؛ فوضع بذرة؛ وأحدث دوياً؛ ورجَّ الأرض رجاً؛ وأوجد له تربةً وتلامذةً؛ فما وطئ أرضاً؛ إلا فتح له الله فيها من القلوب والعقول والأرواح؛ ما جعل أفكاره تمشى على الأرض؛ بعد أنْ كانت تحيا خيالاً فى رأسه!
ولو لم يجد من بعده إلا محمد عبده؛ لكفاه ذلك؛ فهو خليفته فى مشروعه الإصلاحى النهضوى الشامل؛ وهو الذى أخذ منه الفكرة؛ فطوَّرها؛ وأضاف إليها؛ من الأناة، والحلم، ووسائل التربية والتعليم؛ ما جعلها تستحكم وتشتد؛ وتؤتى ثمارها وخيراتها!
فلولا الافغاني؛ لكان محمد عبده فقيهاً مثل غيره؛ وما أكثرهم؛ أو لصار أيضاً أديباً عادياً؛ أو مفكراً تقليدياً؛ لكنه بعد اندماجه الروحى فى الافغاني، الذى أخذ منه الفكرة؛ قام بتغيير بعض آراء الأفغانى وأفكاره؛ فأصبح الاثنان واحداً؛ هو الإصلاح المنبثق من ثورة الأفغاني، وروية محمد عبده واعتداله!
ولولا محمد عبده؛ لَما تطورت أفكار الأفغاني؛ وواكبت الأحداث، والمستجدات؛ فكلاهما فيلسوف؛ وكلاهما فقيه؛ بيد أنَّ مزية الأفغاني؛ أنه ثائر بالفلسفة والعلوم العصرية حتى يُحَرِّك هذه الشعوب الهامدة! وأما صاحبه محمد عبده؛ فمزيته؛ أنه فيلسوف فقيه أديب؛ أدرك من واقعه المعيش بعد هزيمة عرابى «عام1882م»؛ أن طريق النهضة لا بد أن يسير وفق برنامج مدروس؛ عماده التربية؛ وأساسه التعليم؛ وليس الثورة والعنف! فما أكثر الثورات؛ ولكن ما أفظع النتائج؛ لغياب النخبة التى تحمل على سواعدها أعباء تحقيق التقدم والازدهار!
وهو ما فطن إليه بذكاءٍ مشهودٍ له؛ شبلى شميل؛ فقال عن الأفغاني: «ولولا الشيخ محمد عبده؛ اليد الكاتبة؛ لَما كان لصوته صدي«يقصد الأفغاني»؛ ولبقيت تعاليمه حديثاً؛ يُلقيه بحسب مقتضى الحال؛ فهو فيلسوفٌ من الفلاسفة المشّائين؛ أو بالحَرِى الرواقيين»!
فالأفغاني؛ اختار بفراسته خليفته النجيب محمد عبده؛ وائتمنه على مشروعه؛ فكان نِعْمَ الخليفة؛ الذى اختبر السياسة وفنونها، ومارسها؛ فأتقنها؛ فأفاد منها؛ ما لم يستطعه الأفغاني؛ لطبيعته؛ وحِدته، وثورته، واستعجاله!
كان الأفغاني؛ الفكرة؛ وكان محمد عبده الثمرة! كان جمال الدين حامل المشعل؛ وكان الأستاذ الإمام ناشر المنهج! كان الأول الفيلسوف الثائر؛ وكان الآخر الفيلسوف الواقعي! كان الأستاذ مُوْقِظ الشرق؛ وكان التلميذ مُحَقِّق النتائج على الأرض! كان الأفغانى الرائد المؤسس؛ وكان محمد عبده المهندس الباني! كان الأفغانى سياسياً عجولاً فى طلب النتائج؛ وكان محمد عبده فقيهاً مربياً؛ يتأنّى فى النتائج!
كان الأفغانى يريد التغيير السريع؛ وكان محمد عبده يتوخَّى التغيير المدروس المشروط! كان جمال الدين معنياً بالمتغيرات والمتحولات؛ وكان الأستاذ الإمام منوطاً بالثوابت والتعقيدات! كان جمال الدين غير معنيٍّ بفقه المآلات، ولا المقاصد؛ وكان محمد عبده فقيه المآلات والمقاصد! عاش الأفغانى فقيه الثورة؛ وعاش محمد عبده فقيه النهضة!
الكلمات الدلالية/ جمال الأفغاني , محمد عبده