الخليفة «عبدالرحمن الناصر لدين الله».
بقلم: مريم هاشم.
كاتبة وباحثة فى التاريخ الإسلامى.
فى حضرة رجل كان من أعظم من حكموا الأندلس فى تاريخها منذ بداية الفتح الإسلامى حتى سقوطها ، أول من لُقب بأمير المؤمنين من رجال البيت الأموى فى عهد الدولة الأموية بالأندلس ، أعظم ملك عرفته أوروبا فى العصور الوسطى ، فى فترة حكمه أصبحت نسبة الأميه بين صفوف المسلمين فى الأندلس صفراً فى المائة ، كانت قرطبة فى عهده ملاذاً لليهود والنصارى المضطهدون لما قام بهِ من نشر العدل فى أرجاء الخلافة الإسلامية فى الأندلس ، كانت قرطبة فى عهده ثانى أكبر مدينة فى العالم من حيث عدد السكان بعد ” بغداد حاضرة العباسيين“ ، فوق كل هذا قام بتوسعة جامع قرطبة ليصبح أكبر جامع فى العالم وقتها ، بالإضافة إلى ذالك بنى ثلاثة ألاف مسجد ، وازدهر العلم وتطورت فنون البناء وصُممت المساجد بأشكال هندسية عجيبة دعت ملوك أوروبا بإرسال الوفود لدراسة ذالك العلم الذى إبتكره المسلمون ”علم هندسة الحدائق“.
وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والعظمه التى إحتوتها فترة حكمه فى الأندلس إلا أنه قليل الذكر على الألسن ، إنه الخليفة «عبد الرحمن الثالث» والمُلقب بـ «الناصر لدين الله».
نسبه ونشأته:
هو ”عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية“ ، ولد فى قرطبة عام ٢٧٧ه ، وقد قُتل أبوه الأمير ”محمد بن عبدالله“ فى ظروف يحيط بها شئ من الغموض بعد أنا كان مقرر له تولى الخلافة على الأندلس.
أما عن والدته فهى مسيحية من الفرنجة تُدعى ”مارية“ وتُسميها الرواية العربية ”مزنة“.
تربي ”عبدالرحمن الناصر“ على يد جده ”عبدالله بن محمد“ ، وقد أبدى الناصر فى بداية عمره إمتيازاً وتفوقاً ، وتجلت منه براعه فى الشعر والنحو والتاريخ ، وأظهر إستعداداً ملحوظاً فى فنون الحرب والفروسية بعد أن حفظ القرآن الكريم ودرس السنه النبوية ، فإزداد إقبال جده عليه وحبه له وأخذ فى ترشيحه لمختلف المهمات ، وكان يجلسه مكانه فى الأعياد والمناسبات فيأتى الجند ليسلموا عليه ، ويألفوا طاعته.
توليته إمارة الأندلس:
ومن المعروف أنه عند خلو العرش يتسلمه أحد الأبناء من الأكبر سناً أو الأكثر كفائة ، إلا أنه عند وفاة الأمير ”عبدالله بن محمد“ فى ربيع الأول سنة ٣٠٠ه تولى مكانه وفى نفس الليلة حفيده ”عبدالرحمن الناصر“.
وقد تهيأ له الجلوس على العرش بدون وجود أى منازعة ، وقيل بأن جده رمى بخاتمه إليه علامه منه على إستخلافة ، وكان أول من بايعه هم أعمامه ومن بعدهم أخو جده ، وتكلموا عليه بالثناء ولم يتأخر أحدهم أو يتباطئ فى مبايعته ، ويرجع ذالك إلى كونه كان مرضي السيرة ، محمود العشرة ، لديه قدرة كبيرة على كسب ود الجميع ، كما كانت مواهبه وسلوكه تعجب كل من يتقرب منه.
بالإضافة إلى ذالك كانت أوضاع الأندلس على غير ما يرام داخلياً وخارجياً ، وكان طريق النهوض بأعباء الحكم محفوفاً بالمكاره ، حافلاً بالصعاب ، فقد كَثُرت الفتن والثورات ، وإشتدت أخطار الخارجين عن الطاعة.
وكان من الواضح أن مصير الإماؤة الأندلسية معرض للزوال إن لم يتقدم لإنقاذها رجل قوى العزم ، راجح العقل .
على الرغم من أن ”عبدالرحمن الناصر“ لم يسبق له أن قاد جيشاً أو أخمد ثورة قائمة أو حل أزمة سياسية مستعصية ، إلا أن الجميع بالرغم من ذالك بايعوه مبايعة رضى، وإستبشروا بمقدمه وإعتلاء همته ، ورجوا أن يأمن لهم الرعاية والدفاع عن حرماتهم وإصلاح الأحوال القائمة والقضاء على الفتن وتحقيق النظام ، وقد تم لهم ما أرادوا.
وقد كان الناصر ثامن الأمراء الذين تولوا عرش الأندلس من البيت الأموى ، ولم تكن عهود الأمراء الذين سبقوه تخلوا من ثورات واضطرابات ، ولاكن الفترة مابين ٢٣٨ه إلى ٣٠٠ه كانت من أشد الفترات إضطراباً وأحفلها بالثورات ، وعندما تولى «عبدالرحمن الناصر» بدأ فى إتباع سياسة مبتكرة مخالفة لسياسة جده التى كانت تعتمد على المداراه ويشوبوها التردد والإلتواء ، فإتبع عبدالرحمن منذ بادئ الأمر سياسة صريحه ليس فيها تردد ولا تراجع ، وقد كان واضحاً فى أنه سيقدم الرعاية والعفو لمن يدين له بالطاعه ، أما العصاه سيجدون مقاومة وحرباً مدمرة.
تحويل الإمارة الأندلسية إلى خلافة:
كان أمراء الأندلس الأمويين منذ عهد ”عبدالرحمن الداخل“ يكتفون بلقب أمير منعاً لإثارة المشاكل مع الخلافة العباسية ، ولكونهم مشغولين بمشاكل وخلافات أخرى.
ولاكن فى سنة ٣١٦ه كانت الظروف قد تغيرت وتمكن عبدالرحمن الناصر منذ ولايته إخماد الكثير من الثورات ، وإسترداد سلطة الأمراء ، كما أعاد الأمان والنظام إلى معظم أنحاء إمارته ، وكانت الدوله العباسية قد دب فيها الضعف وسيطر الموالى على الخلفاء العباسيين ، والدولة الفاطمية قد بدأت فى الظهور وقتها وكان يطلق على حاكمها إسم الخليفة ، فأصبح هناك خليفتين أحدهما عباسي والأخر فاطمى ، ومن هنا بدأ التفكير لأن يكون هناك خليفة على الأندلس ، ولأن إمارة الأندلس أقدم عهداً وأرسخ قدماً وأدق فى النظام من الخلافة الفاطمية الناشئة فأميرها أحق بلقب الخليفة وأمير المؤمنين ، فإزداد عبدالرحمن تعلقاً وحرصاً على إحراز هذا اللقب ليكون له تأثيره فى قبائل البربر الذى كان يستعين بهم عبدالرحمن لرد الخطر الفاطمى ، فما كان له أن يستمر فى ذالك ولقبه مجرد إمارة.
ويقول المقريزى بأن الناصر كان أول من تسمى بلقب أمير المؤمنين من بني أمية فى الأندلس لأن الدولة كانت قد عظُمَت فى أيامه.
ويقول ابن عذارى أن الناصر فى سنة ٣١٦ه رأى أن تكون الدعوه له فى مخاطباته بأمير المؤمنين ، وعهد إلى صاحب الصلاة بقرطبة أن تكون الصلاة يوم الجمعة بذالك ، ووزعت كتب على عماله .
نظرة عامه على الأندلس فى عهده:
كان لأول مره فى تاريخ الإنسانية تصبح قرطبة حاضرة المنصور أول مدينة فى العالم تُنار كل شوارعها ليلاً ، فكانت قرطبة الإسلامية كالجوهرة المضيئة فى ظلمات أوروبا الغارقه فى الجهل والظلام ، فأرسل الأوربيون البعثات العلمية لبلاد المسلمين لدراسة سبل النهضة الحضارية هناك ، ولأول مره فى أوروبا ظهرت المستشفيات والمكتبات العامه فى أرجاء الدولة الإسلامية .
وقد بنى الخليفة عبدالرحمن مدينة ”الزهراء“ واعتُبِرت أجمل مدينة فى العالم ، حيث بناها المسلمون بطريقة عجيبة فكانت مدينة فوق مدينة فتكون الثلث الأعلى منها من القصور والثلث الثانى من البساتين والثلث الأخير من الدور والجوامع ، وبُنيت بمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التى فاقت قناطر الدنيا حسناً وإتقاناً.
وقد كانت حياة الشعب عبارة عن رخاء إقتصادى منقطع النظير ، فكثرت الأموال واتسع نطاق الخدمات والعلاج المجانى ، وانتشر التعليم المجانى حتى كان يخصص لطالبي العلم راتب شهرى.
وكان لأول مره فى تاريخ الإنسانية أدخل المسلمون نظام الرعاية للمسنين ، فبُنيت دور للعجزة ووظف فيها من يقوم بخدمتهم ، كما بُنيت دور لرعاية الحيوانات.
وقد إمتلك المسلمون فى الأندلس زمن الناصر أقوى جيش عرفته أوروبا فى القرون الوسطى ، فجاءت وفود ملوك أوروبا من كل مكان بالهدايا الثمينة وأموال الجزية إلى الخليفة الناصر فى قرطبة.
وقد ظل هذا الوضع فى الأندلس حتى مجئ ملوك الطوائف بسنوات قليلة..
وفاته:
وقد دامت مدة حكم «عبدالرحمن الناصر» خمسين عاماً إلى أن توفي فى شهر رمضان سنة ٣٥٠ه بعد إصابته بالمرض.
وبعد موته وُجد فى خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده ، عد فيها الأيام التى صفت له دون كدر ، فقال: فى يوم كذا من شهر كذا فى سنة كذا صفا لى ذالك اليوم.
ولما عدوها وجدوا أنهم أربعة عشر يوماً فقط!
وبالرغم من ذالك كان حكمه حافلاً بالأمور العظيمة التى لن تُنسي له فقد جاء «عبدالرحمن الناصر» ناصراً لدين الله .
المصدر:
جهاد الترباني ، مائة من العظماء غيروا مجرى التاريخ.
على أدهم ، أعلام العرب(عبدالرحمن الناصر) ، الهيئة المصرية العامه للكتاب ، ١٩٧٢م
#مريم_هاشم
#رواق